بسم الله الرحمن ا لرحيم ..
منذ بضع سنين وأنا أفكر في هذه ا لظاهرة ، أحيانا أحزن وأحيانا أضحك .. وأرجع ذلك إلى جهل الشباب بأقل المسلمات الشرعية من السنة النبوية ، وليس الجهل ما يقرح القلب ، ولكن الذي يحزن هو الرضى بالجهل والتكاسل عن الصبر على تلقي العلم الشرعي ، ربما مر على الكثير أنه إذا جاءت العشر الأواخر من رمضان فإن الأئمة الشباب يتبرّعون في أشكال الدعاء العجيب المستحيل ! ويشتد البكاء والنواح والنحيب ، ويتحمس الكسالى وقساة القلوب فتحلو المناجاة ، فيقول قائلهم : اللهم دمر امريكا ، أغرق أرضهم بالطوفان - ونسي أن فيها 8 ملايين مسلم على الأقل ، ثم تعالوا بنا نرى دعائهم .. يقولون : اللهم لا تدع لهم في السماء طائرة إلا وأسقطتها ، ولا تدع لهم سفينة في البحر إلا وأغرقتها ، وبعضهم ربما كان متحضرا شوية فيقول : ولا تجعل لهم قمرا صناعيا إلا وأسقطته .. لعل البعض يقفز في وجهي بحركة بهلوانية تذهلني فيقول : ياخي روح بس .. ليس شئ على الله عزيز ! ونحن ندعو وعلى الله إجابة الدعاء .. والحقيقة أننا كوننا ندرك بأنه ليس أمر على الله عزيز نعده شيئا ، وأن الدعاء المشروع المعقول شئ آخر ، فهات لي - طال عمرك - أثرا واحد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على أحد بهذا النحو .. لا أريد إلا دليلا واحدا حتى لا أشق على إخوتي في الله ، ما في دليل ؟ يقولون : ما في دليل ؟؟! عندنا آية بحالها مش بس حديث !! يقول الله تعالى على لسان نوح صلى الله عليه وسلم : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) فنقول له طيب أكمل الآية أشوف ! ( إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) فإن نوحا صلى الله عليه وسلم لما عمم بالدعاء فإنه علل بالسبب ، وهو أنه لم يكن في الأرض يومئذ مسلم إلا هو ومن معه ، فربط ذلك بالنسل الكافر الفاجر ، وفوق ذلك أنه لم يطلق الدعاء للجميع ، ولكن خصصه بالكافرين استثناء لمظنة وجود غير الكافرين - مع أن ذلك كان محالا - فلا سبيل لهم بهذه الآية ، قد كتب الله على نفسه بأنه لم يخصص الدنيا بالمسلمين وحدهم ولهذا قال تعالى : ( وهديناه النجدين ) وقال تعالى : ( إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) وعليه فإن هلاك الكافرين بعامة لا يحقق كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه سيدنا أبو هريرة قوله : " افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة " رواه أبوداوود وصححه الألباني رحمهما الله . ولو حقق الله مطلب هؤلاء الشباب لوجب أن لا تكون هناك فرق لا لليهود ولا للنصارى ، بل لا وجود لهما البتة ، ولوجب أن لا يكون هناك يهود نضاربهم في بيت المقدس حتى يقودنا المسيح عليه السلام كما في الأحاديث الصحيحة ، وعليه فنقول : إن ما يرتكبه الشباب خطأ عظيم بالتعدي بالدعاء بإسقاط كل طائرات الكافرين وإغراق كل سفنهم - لأن ذلك محال - فلو قال القائل منهم في دعاءه : اللهم أهلكم بددا ، وأحصهم عددا ، ولا تغادر منهم أحدا - وهذا حاصل يحدث في كل رمضان - فكيف تقوم راية الجهاد ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - كما روى الإمام مسلم أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق قائمين بأمر الله لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله " ( الحديث ) فإن أجاب الله دعاء هؤلاء لما بقي من نقاتله ونجاهده في الله .. ولما بقي اليهود في بيت المقدس ، ولم يكن معنى لقوله صلى الله عليه وسلم : " تفتحون رومية ، ثم تفتحون قسطنطينية " لأنه لا يكون فتح بغير قتال ، فمن نقاتل إذا أهلك الله الكافرين بعامة ؟! وعليه نقول بارك الله فيكم : إن هذا الدعاء بهذا الشكل لإهلاك الكافرين جمييييعا بلا حصر ولا استثناء هو من باب التعدي في الدعاء الذي نهانا عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام مسلم في صحيحه من طريق إمام الحفاظ وسيد المحدثين أبي هريرة رضي الله عنه أن سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل .. قيل يا رسول الله ما الاستعجال ؟ قال : يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء " وهذا الصنف من الدعاء الجائر - الذي يستحيل وقوعه مع حكمة الله الكونية في حصول ما لا بد منه - هو من الإستعجال ، بينما الأمر الشرعي المتواتر في الأدلة الكثيرة على الصبر والجهاد والدعوة إلى الله ، وقد دعا نبي الله صلى الله عليه وسلم ، بل سمّى المدعو عليهم بأسماءهم بأبي هو وأمي لما روى الشيخان رضي الله عنهما واللفظ لمسلم عن إمام المحدثين وشامة الحفاظ أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد - يقول وهو قائم : " اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم كسني يوسف ، اللهم العن لحيان ، ورعلا وذكوان ، وعصية عصت الله ورسوله " ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) (انتهى) واللفظ للإمام مسلم .. فنرى أنه صلى الله عليه وسلم لم يدع بعامة أبدا ، بل فقط على بطون وقبائل !! حتى القبائل فنهاه الله عنهم ! لأنه ربما يقع عليهم الدعاء من نبي مرسل ومن بينهم الطفل الرضيع البرئ الذي ربما يؤمن غدا ! سبحااان الله ! ما ألطف الله !! بل حتى الذين سماهم صلى الله عليه وسلم بأعيانهم - وليس دعاء بالحصاد العام كما يعمل شباب اليوم !! - نهاه ربنا عن ذلك !! ولنستأنس أيظا بنص آخر وهو ما رواه الإمام الحسين بن منصور البغوي الحافظ في تفسيره بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " فافترسه أسد ( انتهى ) وروى الإمام جبل الحفظ محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول : " اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا - بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد - فأنزل الله ( ليس لك من الأمر شيء - إلى قوله - فإنهم ظالمون ) (انتهى) ونرجع بعد ذلك فأقول - أنا العبد الجاهل المقصر في حق الله وحق رسوله - : أخشى أن ما يفعله الشباب من مثل هذا التعميم الشامل في الدعاء بالهلاك والفناء على الكفار فإنه ظلم للنفس لا يرضاه الله ، لأنه منافٍ للنصوص الشرعية ، ومناف لحكمة ا لله الكونية ، مجانب للحق ، وأخف أنه واقع فوق ذلك في الضلال والباطل .. ربما جاز للواحد من المسلمين أن يدعو على معين كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو أيظا ما نهاه الله عنه بقوله ( ليس لك من الأمر شئ ) - وأظن النهي خاصا به - بسبب أدلة أخرى تبيح للمؤمن الدعاء على الظالم والجاني كما رواه الإمام مسلم عن ابن عم رسول الله عبدالله بن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال : " واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " وما قرأتموه جهد المقل ، وعطية الشحيح ، نسأل الله العفو والرحمة ، فإن كان فيه من صواب فهو من مولاي جل جلاله ، وإن كان فيه من شطط فإنه من نفسي ..
منقول