قصةُ برٍّ عاصرتها؛ بل عايشتها لحظةٍ بلحظة، وخطوةٍ بخطوة؛ ففصولها تنسج أمام ناظري كل يوم حتى اكتملت.
جدتي لأمي عجوز طاعنة في السن ومقعدة، وهي ضريرة أيضًا.
يحضرها خالي لوالدتي رحمهم الله تعالى؛ لتقوم على رعايتها وترعى شئونها.
تشمر والدتي عن ساعد الجد والعزم؛ لتقوم بالمهمّة الصعبة الشاقّة؛ فالتعامل مع كبير السن المقعد الضرير، مهمّة ليست بالسهلة اليسيرة.
بدأت المهمّة؛ هيأتِ المكان، وفق الإمكانات المتوفرة. فجلبت لها فراشًا وثيرًا، وغطاءً دفيئًا.
وفرت كل ما يحتاجونه كبار السن عادةً.
يمر اليوم الأول والثاني.... وهكذا.
كنّا نتحلق حول الجدة أنا وشقيقي رفيق الطفولة والصبا أبو تركي ، وأخي لأبي أبو عبدالله، وكذلك شقيقاتي الثلاث الصغيرات.
كانت تحكي لنا الحكايات الجميلة،
كانت توالي الطلبات على الوالدة الحنونة، أريد ماءً، أريد أن أذهب إلى بيت الخلاء، أريد....، أريد...
وبكل أريحيّة وأُنس تلبي الوالدة جميع طلباتها.
أحيانًا تُسمعُ أمي بعض الكلام الجارح؛ فتتلقاه الوالدة بابتسامة عريضة ودعوات للجدة.
تهيء لها الإستحمام في الأسبوع مرتين، تغيّر ملابسها باستمرار.
وهكذا يستمر الحال: يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وعامًا بعد عام.. حتى توفى الله الجدة، رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.
وتستمر الحياة....
يتزوج شقيقي أبو تركي ، ويتزوجن شقيقاتي الثلاث أيضًا.
وأبقى أنا مع والدتي الحنون.
وأنفرد في غرفتي الخاصة، وهي تلك الغرفة التي كنّا نتحلّق فيها حول جدّتنا رحمها الله تعالى؛ والتي طالما سمعنا فيها الحكايات الجميلة، والقصص المثيرة.
بقيت على هذا الحال سنوات أعبُّ من حنان الأم وعطفها.
ويتقدم العمر بالوالدة، وكذلك بنا.
وتدخل الوالدة مرحلة الشيخوخة؛ فتتعب تارة، وتمرض تارة؛ لكنها لا زالت تقوم بنفسها وحالها.
وفي السنوات الأخيرة من حياتها، يتعبها المرض، ويقعدها؛ فتحتاج لمن يقوم برعايتها، وخدمتها.
فماذا تنتظرون؟!!!
لقد كانت بارّة بأمّها. فماذا تتوقعون؟!!!
تفانت في رعاية أمّها وحضانتها. فماذا تظنون؟!!!
بناتها الستة، وشقيقي الأكبر يتسابقون:
على خدمتها.
على تمريضها.
على رعايتها.
الله أكبر.
رباط على مدار الساعة.
أخواتي الفاضلات، قسّمن الأيام بينهن. اثنتان كل أربعٍ وعشرين ساعة.
ورباط وملازمة من شقيقي الأكبر على مدار الساعة.
ويستمر الوضع هكذا فترة ليست بالقصيرة؛ خدمةً للأم ورعايةً لها؛ حتى توفاها الله.
الله أكبر.
فالجزاء من جنس العمل.
الله أكبر يا أُمِّي؛ لم يضع برّك بأمِّكِ هباء؛ فقد عوّضك الله من أبناءك برًّا عجيبًا؛ فاق النقل والتوصيف.
وَإِنِّي لأرجو أن يكون لكِ عند الله خيرًا عظيمًا، وثوابًا جمًّا غزيرًا.
تلك قصةُ برًّ عجيبة، عاصرتها بداية ونهاية.
بقلمي.
وأنا من عاصر هذه القصة؛ فهي قصة أمي وجدتي.