من وحي الذاكرة:
كنت وفق الإصطلاح المعاصر(( دلعوعة أبي)) وقولوا ما شاء الله(( ودلوعة أمي)) كذلك.
والأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبًا طيّب الأعراق.
رحمهما الله تعالى وأسكنهما فسيح جناته.
كان ذلك في التسعينات الهجرية من القرن المنصرم.
قبل أن أرخي للقلم العنان، أرى أنه من المتحتّم قبل ذلك أن أبيّن وأوضح أمر مهم وجوهري خاص بمصطلح( الدلوعة)؛ فليس ما ترى من تفسيرات عملية لهذا المصطلح في الوقت المعاصر؛ مطابق للمعنى العملي للمصطلح في ذاك الزمان الجميل؛ فالفرق كبير، والبون شاسع.
والعامل المشترك بين الزمانين هو زيادة الحضوة.
أما الفرق فمختصرًا:
فالزمن الماضي وهو ما يسمى بالزمن الجميل- والجمال والقبح هو فعل أهل أي زمان ؛ فالزمن واحد لا يتغيّر؛ وإنما يقبِّح ويجمِّل الفعل ليس إلا- أقول في الزمن الماضي كانت الحضوة والملاصقة والملازمة والإهتمام؛ للتعليم والإقتداء، وأخذ الدروس النظرية والعملية والتطبيقية.
أما في الحاضر فهو ما ترون لا ما تسمعون.
كان والدي يحرص على أن أصاحبه في الذهاب والإياب- وقدّر الله أن تكون تلك الفترة قصيرة جدًا فقد توفي والدي رحمه الله قبل أن أبلغ الحلم- كان إذا ذهب إلى السوق اصطحبني معه، وكنت أتلقى منه جرعات تعليميةٍ عمليّةٍ حقيقيّة.
كنت أراه حين يقبض ثمن محصول المزرعة من الدلال، ثم يذهب إلى الجانب الأخر من حلقة الخضار ليشتري ما تتسع له تلك الدريهيمات التي قبضها من مقاضي ومأكولات؛ وعند العودة إلى البيت يقوم بتوزيعها على الجيران، ولا يكتنزها في بيته؛ بل بيته يأخذ نصيبه كما الجيران لا يزيد عنهم.
لا يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل يقوم بإعداد وليمة غداء؛ قد جلب إيدامها ضمن المقاضي والمأكولات السابقة؛ يقمن بذلك أمي وخالتي وأخواتي وبعض النساء القريبات ، ليس لأهل بيته وحسب؛ بل وللجيران أيضًا.
هذا موقف تكرر كثيرًا، ليس موقفًا أحاديًا، وليس فريدًا، مرةً واحدة ثم التوبة؛ لا وربي؛ بل هذا ديدنه وذاك فعله.
هذا درسٌ عمليّ استفدت منه كثيرًا؛ وأعترف لم أعمله، ولا أستطيع أن أعمله، فأين الثريا من الثرى.
هو موقف ماثلًا أمامي، أستعرضه كل وقت وكل حين، مع شوقٍ وحنين لتلك الأيام الخوالي، ولذلك الدلع المفقود.
وتلك دروسًا تلقيتها في هذه الناحية؛ وهناك دروسًا أُخَر في نواحي أُخَر، لم أتِ على ذكرها؛ خوف السآمة والملل؛ وربما سآتي بها وعليها قابل الأيام والليالي.
بقلمي
محبكم أبو باسم