كثير من المرات يجول بخاطري وتستهويني الكتابة عن علاقات الناس بعضهم ببعض سواء على مستوى الأسرة أو الأصدقاء والزملاء أو رفقة السفر. ولأن هذا باب واسع ولا يمكن حصره في مقالة ، فقد عزمت على الكتابة بما أستطيع منه عملا بالقاعدة ( مالا يدرك كله لا يترك جله) وهذه العبارة تعني الحث على تحصيل ما يمكن تحصيله ولو كان قليلا والقصد من هذا الطرح جذب الانتباه إلى هذا الموضوع وأهميته وأعتذر عن الإطالة.
خلق الله الناس فوق هذه الأرض وهم مختلفوا الطبائع والرغبات والميول ، وفي الحديث (الناس معادن كمعادن الفضة والذهب, خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) والأرواح جنودٌ مجندةٌ, فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
جعل الله سبحانه حياتنا مرتبطة بالآخرين بشكل كبير، ولا تكتمل حياتنا إلا بوجودهم. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). والآخرون قد يكونون قريبين جدا منك كأسرتك وأصدقائك وزملائك، وقد يكونون بعيدين ولكن تحتاج للتعامل معهم بين وقت وآخر (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا).
هذا التواصل مع الآخرين له أثره الكبير ليس على معيشتنا فقط بل حتى على نفسياتنا، ولهذا فلابد أن نتأثر ونؤثر في الآخرين ،
والعلاقات بين الناس في بدايتها تكون جميلة جدا بجمال ابتساماتها وصدق عباراتها وحسن ظنها، فلماذا تتغير؟
إن النفس البشرية مجبولة على التعايش والتفاعل مع الآخرين ولكن الشيطان يبدأ مكره لتحويل هذه العلاقة من كونها شريفة إلى وضيعة، فيدفع البعض إلى الاشتغال بعيوب الناس وتتبع عثراتهم، وهذا خلاف ما أُمِرنا به من إحسان الظن، فمن الظلم أن نبرز زلات الآخرين في أمور محدودة ونغفل عن الخير الذي لديهم والذي لا تراه العيون ولكنه يكتشف بالتعامل والمخالطة. إن كل إنسان فيه جوانب من الخير عديدة وما علينا إلا أن نسعى لاكتشافها واستخراجها بشيء من الرقة واللين وبقليل من الاعتناء بمن حولنا والاهتمام بهمومهم والعطف عليهم وتجاوز أخطائهم وحماقاتهم بالتغافل والعناية بهم، بل ومشاركتهم أفكارهم حتى نتمكن من جعل مشاعرهم تتدفق نحونا وهنا سنجد ما يذهلنا من المشاعر الجياشة والاهتمام بأفكارنا، وسيمنحوننا الحب والمودة والثقة ، كل ذلك في مقابل القليل الذي أعطيناهم بصدق وإخلاص.
أحبابي إن الشر ليس متعمقا في نفس الإنسان ولكن الشيطان لا يريد لنا السعادة يزين للبعض أن هذا الشر ضروري لمواجهة صعوبات الحياة فهو يَجُرُّنا إلى الشر جَرا. والشر عند غالبية الناس ليس أصلا بل هو كالقشرة على أحد أنواع الفاكهة الحلوة فمتى ما أشعرنا صاحب هذا الطبع بأننا أحبابه وصَدقْناه القول زالت تلك القشرة وبدت لنا الثمرة الحلوة. وهذا الشيء لا يتأتى إلا بالصبر على أذى الناس ونفعهم وإشعارهم بحب الخير لهم والتعامل معهم برفق ولين.
ولقد أعجبني جدا وصف أحد الحكماء حين قال: إن قلوب بعض الناس كمرآة صقيلة تراكم عليها الغبار والطين فإن ذهبت لتنظيفها بعنف وبأدوات خشنة خدشت ذلك الصفاء وأفسدت تلك المرآة ، وإن تعاملت معها برفق بنفخ الغبار وتبليل الطين وإزالته برفق عادت مرآة ناصعة جميلة.
إن من أجمل أساليب التعامل المؤثر في الناس هو العفو والصفح، والتنازل عمَّا للنفْس من حقوق عند الآخرين، لا عن ضَعف ولا بدافع من خوف ، ولكن رغبة خالصة فيما عند الله، وإيثارًا للآخرة على الدنيا الفانية، ففي الحديث (واعف عمن ظلمك).
كذلك فإنه يمكن التأثير على الآخرين بجميل أسلوبنا لهم بالخطاب وبانتقاء العبارات المشجعة واللبقة المُتَوَّجه بحسن الظن والتشجيع على عمل الأفضل ، وقدرتنا على بناء علاقة قوية مع من حولنا بإبراز أجمل ما فيهم والتركيز على كل ماهو إيجابي والتحدث إليهم والتبسط معهم وتجنب النقد المباشر.
ومن الأمور التي تؤثر سلبا في استمرار العلاقة الحسنة بين الناس هو التصور الخاطيء والتحليل السلبي لما يصدر عن الآخرين من تصرفات سواء من كلام أو نظرات أو حركات (ماذا يقصد بعبارة كذا ، لماذا ينظر إلي هكذا ، لماذا يعمل حركات بهذا الشكل) مع أنه لم يكن شيئا من هذا مقصودا.
وهذا النوع من تفسير تصرفات الناس هو ما يسبب أغلب المشاكل ويهدم العلاقات ولهذا درِّب نفسك أخي المبارك على إحسان الظن بالناس فقد تكون الحقيقة بخلاف ما تتصور لأنهم لم يقصدوا ما فهمت ، ويجب إعطاء الأشياء حجمها الحقيقي ، وإن مما ينصح به في التعامل مع الناس الترفع عن مخاطبة ومجاراة السفهاء (يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيباً) ولا تسمح لأحد أن يتحكم بمشاعرك فيؤذيك بكلمة أو إشارة نتيجة جدال لا طائل منه ، حتى لو تبين لك أنك مقصود بالإساءة فإن لديك وصفة ربانية وحلا تقلب به الموازين في قول الله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) هذا إذا كان تصرفه عداوة حقيقية وليس مجرد ظن، فإن تصرفك الإيجابي يقلب عداوته إلى أكثر من مجرد صداقة عادية، بل إلى صداقة حميمة وهذه تحتاج إلى مجاهدة الشيطان الذي يقول لك لو سامحته اعتبرك ضعيف وزاد في تسلطه عليك وهذا من كيد الشيطان للمسلم. ولأن الأخلاق الحسنة تجذب القلوب وتورث الراحة النفسية فإنها الملجأ لخلق علاقات طيبة بين الناس كما أنها أحد مراكب النجاة.
أكرر الاعتذار عن الإطالة ودمتم بخير
